كيف صارت جدة مدينة العالم

في الفترة الأخيرة انفتحت لي كنوز من الدراسات التاريخية عن أعلام من الحياة السياسية والفكرية في المملكة العربية السعودية۔ بلغت سعادتي بها السماء مع أعمال للمؤرخ والمفكر الاستثنائي محمد السيف۔ قبل أسبوعين في القاهرة، وفي لقاء مع صحبة رائعة من كتّاب السعودية، بينهم الصحافي علي مكي والشاعر والصحافي هاشم الجحدلي، التقيت بالكاتب والمؤرخ محمد أنور مسلم نويلاتي۔ أهداني كتابه الأخير الصادر عن دار «متون المثقف للنشر» بعنوان «جدة والآخرون»۔

محمد النويلاتي هو مؤسس وأول رئيس للأكاديمية السعودية للطيران المدني، كما أنه مؤرخ وباحث له كتب رائعة مثل «أسطورة جدة.. أمنا حواء بين الأساطير والأديان والعلم»۔ جدة، مثل مكة والمدينة، لا تغيب عن بالنا في مصر حتى لو لم نزرها۔ يتردد اسمها دائما في رحلات الحج، ومهما تطورت وسائل السفر من قوافل الجمال إلى السفن إلى الطائرات فهي الأقرب إلى مكة، ومن ثم هي محطة الترانزيت في طريق الحج والعمرة۔

أغراني عنوان الكتاب «جدة والآخرون» وعنوانه الفرعي «قراءة في الأهمية المكانية لمدينة جدة حتى بداية القرن العشرين»۔

يفتتح الكاتب بفصول طويلة عن الهوية، وسبب ولعه بجدة، فهو مولود فيها وعن منهجه في البحث، منها فصل ممتع برؤية أديب عن ذكرياته في التعليم الأولي في مدرسة الخالدية، وبداية تشكل وعيه في الستينيات، حيث جدة تفتح ذراعيها للغرباء۔ كيف رأى حوله بشرا من السودان والشام واليمن ومصر والأردن وفلسطين والعراق والصومال والهند، وخواجات ألمان وأمريكيين ويونانيين باعة ومدرسين۔ خبرته معهم في ما يبيعون من طعام، أو يمارسون من مهن مثل الطب وغيره۔ كيف رآها بيئة حاضنة للجميع، سنرى ذلك بتفصيل تاريخي علمي في ما بعد۔ ندخل في قلب الكتاب، يتحدث أولا عن البحر الأحمر وأهميته، من أين جاء اسمه الذي تعدد في الكتب القديمة، مثل بحر القلزم والبحر الأخضر وبحر الحجاز وغيره، حتى استقر في البحر الأحمر، لوجود طحالب ذات لون يميل إلى الحمرة في شماله، أو لانعكاس لون الشُعب المرجانية فيه بكثافة۔ البحر الأحمر في كتب الرحالة والجغرافيين۔ كيف كان طريق مصر القديمة إلى بلاد بونت، أو الصومال في عهد الملكة حتشبسوت، واستخدامه في كل العصور التالية۔ شق قناة تصل بينه وبين النيل أكثر من مرة منذ حضارة مصر القديمة حتى قناة السويس ومن فعل ذلك۔ جدة في صدر الإسلام حيث كان ظهورها الأول ثم ظهور الأهمية المكانية لها عالميا۔ تداعي الحروب والحملات عليها في عهود الدول المختلفة مثل المماليك والأيوبيين والعثمانيين۔

يأتي الظهور الثاني لها بما سماه «التجوير»، أيّ أثر التجارة ودورها فيه بين الشرق والغرب۔ تفصيل رائع عن هذا المصطلح ومفردات تطبيقه، وكيف بدأ مع الشريف حسين بقرارات مثل إلغاء ثلث الأداءات المفروضة على التجار، وغيرها وحمايتهم، صراعات مع الدولة الرسولية في اليمن، اسمها جاء من اسم حاكمها نور الدين عمر بن رسول، الدولة الزيدية الشيعية، كذلك الحملات الصليبية على الشرق۔ الظهور الثالث لجدة في عهد الدولة العثمانية بين صراعات العثمانيين ودول في الشرق مثل الصفويين، وفي الجنوب مثل الحبشة، ثم ظهور البرتغال وكشوفها الجغرافية مثل الطريق إلى الهند، ومحمد علي وحملاته على الجزيرة العربية واحتلال جدة۔ كل شيء مرّ بجدة حتى الأوبئة التي كانت تأتي مع قوافل الحج من الهند، خاصة الكوليرا، كيف ظهر القراصنة وتجار العبيد ومعاناة جدة في ذلك، ثم جدة مع القرن العشرين والحرب العالمية الأولى۔ ظهور بريطانيا في المشهد وتجلياته، أشكال القيادة لجدة قبل ذلك من ولاية الجيش إلى ولاية القناصل الأجنبية، والمعارك بينها وبين الشعب وأعداد الضحايا۔

كيف كان التدخل العسكري الإنكليزي في جدة ما بين تهديد محتمل وفعلي، مثل قصف الأسطول البريطاني للمدينة عام 1858 وإغراق سفن أهل المدينة التجارية، ثم يأتي الوجود الفرنسي۔ كيف تطلعت فرنسا في بدايات العصر الحديث كغيرها من القوى الأوروبية إلى الاتجاه نحو الشرق وثرواته۔ اتجهت إلى الهند مرورا بمنطقة الخليج العربي، من خلال شركة الهند الشرقية الفرنسية عام 1664۔ كان احتلال مصر مع حملة نابليون أحد وجوه السيطرة على البحر الأحمر، وضرب مصالح إنكلترا۔ اثناء الحملة الفرنسية تواصل بونابرت والشريف غالب بن مساعد وتبادلا الهدايا۔ التجلي الثاني لفرنسا هو مشروع قناة السويس۔ كيف ظهرت قنصليتها في جدة رسميا عام 1839 وما فعلته۔ المستشرقون الذين حضروا إلى جدة مثل بوركهارت وشارل ديديه وكورتلمون المصور والرحالة وفِلجانس فرنيل، وما كتبه أو فعله كل منهم۔ بعدها يأتي وجود روسيا وقنصليتها وعملها وأهدافها التي لا تختلف عن غيرها، ثم الوجود الهولندي والقنصلية، وكيف دعا القنصل الرحالة سنوك هرخونيه للعمل والقدوم للحجاز عام 1844 وأعلن إسلامه۔ من إنجازاته أنه استطاع تسجيل الأصوات بجهاز فونغراف بدائي سجل فيه الأذان والقرآن والفنون الشعبية والنداء في الأسواق بما يساوي 150-200 أسطوانة۔

يتوسع دائما في الحديث عن حضور الآخرين إلى جدة، البرتغال مثلا كان وراء حضورها نزعات صليبية ورسائل توضح ذلك۔ تاريخ وتطور الوجود البرتغالي وروايات برتغالية لوصف سور غزة، وكيف تم بناؤه من قبل المماليك في مواجهة البرتغال أيام السلطان الغوري، والروايات المختلفة في ذلك غربية وعربية۔ كيف تعرضت جدة إلى هجمات برتغالية أربع مرات۔ كانت الأولى عام 1514 وضربت جدة بالمدافع من السفن، لكن لم ينزل الجنود إلى الشاطئ۔ الثانية عام 1515 وتكونت من ست وعشرين سفينة، وألف وخمسمئة فارس لحصار جدة وتدميرها، الثالثة عام 1517 والأخيرة عام 1520۔ على الجانب الآخر تفاعل الصينيون والهنود والأفارقة مع أهل جدة، وساهموا في الحياة الثقافة والاقتصادية والروحية۔ الحضارم وكيف نما المجتمع الحضرمي، وكيف كان تأثيرهم في جدة على ثلاثة محاور۔ التعليم الديني والتجارة والوجاهة الاجتماعية وتفاصيل ذلك۔ الصينيون ثم الهنود وكيف كانوا من أكثر الأجناس التي استوطنت جدة، لنصل إلى الملاحة وإرهاصات الحداثة۔

كيف شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر نموا كبيرا في حركة الملاحة البحرية من جدة، وإليها فصارت في نهاية القرن مدينة كونية۔ طرق السفن وكيف صارت واردات جدة أكثر من مليون إسترليني۔ كيف بنهاية الربع الأول من القرن العشرين صارت لجدة علاقة تجارية مع اثنين وعشرين ميناء آخر لنقل الحجاج والبضائع۔ كيف انفتحت جدة على موسيقى البلاد الأخرى في مناسبات مثل الكريسماس وأعياد الميلاد۔ كيف تعددت أشكال الطعام فيها من الثقافات الأخرى، وكان الخلاف فقط على المشروبات الروحية۔ كيف أقيمت مقابر لغير المسلمين وتطورها۔

كيف بدأت السكة الحديد والترامواي والسيارات بدلا من النقل التقليدي بالجمال۔ كذلك دخول البرق والبريد لأول مرة، وتحلية المياه، ثم إقامة المستشفيات وظهور الصحف مثل صحيفة «الإصلاح الحجازي»، التي انشأها سوري هو مصطفى توكل، ومعه محرر لبناني في مايو/أيار 1909 وجرائد أخرى مثل «صفا الحجاز» وغيرها۔ كيف ظهرت الطائرات في سماء جدة، كانت أول طائرة إنكليزية حلقت في السماء وألقت منشورات على الناس أثناء الحرب العالمية الأولي لصالح الإنكليز، ثم بعدها بدأ بناء مطار مع الشريف حسين والثورة العربية، حتى وصلنا إلى أول طيار سعودي وهو الزعيم عبد السلام سرحان عام 1939 ثم تأتي المدارس والتعليم الحديث، الذي بدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مدارس مثل المدرسة الرشيدية ومدرسة النجاح، وفي مطلع القرن العشرين جاءت أيقونة جدة في العلم والحداثة، وهي «مدارس الفلاح»۔ كيف أنشأ الملك عبد العزيز مجلس المعارف الذي وضع أول نظام تعلمي في البلاد۔ حديث عن ظهور البنوك والشركات المساهمة۔

في النهاية يلخص ملامح شخصية جدة في إنها تتسم بالرافد الديني والرافد الحضري والتسامح الإسلامي والتجانس الاجتماعي والتجارة لا السياسة، والإقبال على الحداثة، وكل ذلك مرّ بنا۔ الكتاب حافل بالصور والوثائق والمقتطفات من الكتب عربية وأجنبية، دليل على البحث۔ كيف جعل المكان جدة مدينة العالم في الزمان۔ جهد رائع يستحق كل تقدير۔